في سلعَنة العروبة أو العروبة كعلامة تجارية

ينطلق هذا الرأي من ملاحظة مفادها أن العروبة تحوّلت من منتوج تاريخي أو حاجة تاريخية إلى صناعة أو منتوج يخضع إلى قوانين السوق، بما في ذلك خلق الرغبة في الاستهلاك، والاشتغال على البضاعة الاستهلاكية من حيث الجاذبية والتعليب ووسائل التعلّق بالبضاعة حدّ الادمان وغيرها. ويخضع هذا المنتوج أيضا إلى قوانين العرض والطلب، بما في ذلك صناعة الطلب. وكل هذا يحيل طبعا إلى المال. إذا سلمنا بذلك فهل حان وقت إخراج مسألة العروبة من إطار العلوم السياسية وتاريخ الأفكار ووضعها في إطار علوم الاقتصاد والسوق؟ وما هي تبعات ذلك؟

عناصر الجواب قد تكمن في دراسة تحوّل مهمّ في المنطقة العربية، من مركزية مصرية-سورية-عراقية إلى مركزية خليجية. وقد  تكمن في تداعيات نهاية فترة التعبئة ضدّ الاستعمار. وقد يكون مدخل  الإجابة دراسة تاريخ العواطف من وجهة نظر علاقتها بالسوق.  وقد يكون من المفيد دراسة الثورات في المنطقة العربية من زاوية علاقتها بالعروبة، أي كيفية ومدى تقلّص حضور العروبة فيها، مقارنة بما سبقها من الثورات في نفس المنطقة.

لماذا العروبة بالذات؟ أي، بمنطق اقتصادي، ما هي القيمة المضافة التي توفّرها العروبة؟

لتناول هذا الموضوع يتعيّن طرح جملة من الأسئلة منها: متى انتقلت العروبة من فكرة جامعة أو عاطفة مشتركة الى سلعة؟ وكيف تمّ ذلك؟ وما هي تبِعات هذا الانتقال على سياسة الهوية؟ وكيف أثّر هذا الانتقال في  إمكا نية استمرار فكرة العروبة في حدّ ذاتها؟

 لتوضيح هذه الأسئلة لابد من الاستئناس بالاقتصاد السياسي. وهنا لابد من النظر إلى الانسان العربي - بالمعنى العام للكلمة - كمستهلِك. إذ نلحظ أن جلّ المشاريع القَطرية والإماراتية في ميادين الإعلام والثقافة مثلا تنصبّ على هذا الجانب وترتكز عليه، وذلك من أبسط تسميات النشريات والقنوات التلفزية إلى المشاريع الفكرية والمؤسسات والجمعيات والرياضة….

طبعا يحتاج كلّ من هذه المجالات إلى دراسة منفردة متعمّقة. وسنكتفي  هنا بالإشارة إلى كرة القدم كمثال باعتبارها تعدّ مؤشّرا مهمّا على كيفية التلاعب بالعواطف واستثمارها بالمعنى الرمزي والإقتصادي معا. فبالإضافة إلى الاستثمار في الرياضة، من شراء جمعيات إلى تنظيم دورات ومقابلات و"رعاية" (سبنسورينغ) واسعة النطاق تحوّلت إلى نوع من المونوبول التام، ومثاله قنوات بيين سبورت وقع انتاجخطاب تسويقي ملائم.  وهذا الخطاب المصاحب للرياضة، تعبير مكثّف عمّا نصفه هنا بسلعنة العواطف ورسمَلتها. هذا الخطاب يبثّه عادة معلّقون يجمعون بين البروباغندا السياسية والتعليق الرياضي والمغازلة العاطفية باعتماد أساليب خَطابة وبلاغة تنزع إلى الإثارة وتوجيه المتقبِّل. والمتأمّل في آخر تظاهرتين لكرة القدم، وأعني بذلك كأس العرب وكأس إفريقيا للأمم، يلحظ أنّ الأولى وقع توظيفها بالكامل لتلميع صورة البلد المضيف وإشهار انجازاته وكذلك لإخفاء سياسات .معادية أصلا لفكرة العروبة، مثل التطبيع مع إسرائيل. كماوقع استعمال التظاهرة الثانية لنشر خطاب عنصري تفريقي يميّز عرب إفريقيا عن غيرهم من الأفارقة.

وفي إطار هذه السلعنة أصبح العمل والرمز القُطري والمحلّي في أي بلد عربي يُباع ويُشترى من قِبل المشتثمرين في العروبة لا لشيء إلا لكوْنه "عربي". وأمثلته مَنح الجنسيات حسب القيمة المضافة للشخص والتكريمات والجوائز الباذخة والتشريفات التي تتشبّث في القيام بها بلدان الخليج وخاصة الإمارات وقَطر، "تثمينا" لنجاح أي مواطن أو مشروع ثقافي أو فكري أو رياضي عربي. ومن ثمّ يقع تسويقه على أنّه ليس ملك صاحبه أو بلده وإنّما هو عيِّنة وبضاعة "عربية" برعاية الرأس مال "النفطي".  وقد جُنّدت لهذا المشروع الضخم طبقة من السماسرة، بالمعنى الإقتصادي للكلمة، مهمّتها رصد المواهب والوساطة والإغراء وعقد الصفقات التبادلية. 

قد أعود إلى هؤلاء في إطار ما يمكن اعتباره ظاهرة استبطان أساليب الحكم والتحكّم الإستعمارية من قبل المنظومة الريعية الخليجية في تعاملها مع العرب وتصنيفهم إلى شرائح وطبقات في سلّم منظومة السوق. أما هنا فأختم بالإشارة إلى أنّ تحويل العروبة من فكرة جامعة إلى علامة تجارية وإلى سلعة تُباع وتُشترى ليست بالضرورة شرّا مطلقا. بل لعلّها مؤشّرعلى نهاية وَهْم هووي قد تؤدي إلى ولادة وعي جديد.

Previous
Previous

اعتراف وتذكير: محمد الصالح بن عمر

Next
Next

قراءة ترافُدية في رواية زهرة الصبّار لعلياء التابعي (1991)